Thursday, March 25, 2010

حكاية خريفية


كان قد صحا يومها على غيوم داكنة تغطّي السماء مبشّرة بشتاء واعد... لم يهتم للأمر كثيراً، فخرج متوجّهاً إلى عمله لتفاجئه الأمطار في الطريق. كانت أمطاراً غزيرة غير متوقّعة في فصل الخريف، أربكت الناس والمُشاة والسائقين، ولم تمض دقائق حتّى كانت السيول قد جرت وامتلأت الشوارع بالمستنقعات. مع ذلك لم يبد على ملامحه أي اهتمام، كان قابعاً في سيّارته ينظر إلى الساعة حيناً، ويتأفّف حيناً آخر حتى لمحها... كانت تقف على الرصيف المقابل، وجد نفسه ينتزع نظره انتزاعاً عنها ليهمّ باستئناف سيره، حين رأى أحدهم يقود سيّارته أمامها بسرعة، فيرشّها بمياه الأمطار المتجمّعة على الشارع ويمضي دون أن يلتفت، ورآها تنحني محاولة إزالة آثار المياه بكفّيها دون جدوى، ثمّ لتنظر باتّجاه السائق في حنق، وتتلفّت حولها في حيرة...

تمنّى لو يساعدها، لكن لم يدر كيف، وبقي في مكانه ينظر نحوها بتعاطف وذهول إلى أن أفاق على السائقين وراءه ينبّهونه ليتحرّك بعد أن كان قد عطّل السير كلّه! في اليوم التالي لمحها تقف في المكان نفسه، فخفق قلبه باضطراب غير معهود...

ومرّت الأيّام وهو يرقبها بصمت... ويقمع قلبه بصمت وصعوبة، حتّى قرّر التعرّف إليها أخيراً.

تمّ التعارف، ونسج القدر قصّة حبّه الأوّل معها، لكن لسبب أو لآخر حالت الظروف دون ارتباطه بها، ودارت رحى الأيام حتّى وجد نفسه متزوّجاً وأباً ورب أسرة مُثقلاً بالأعباء، ومحاصراً بالرتابة! لكنّه في كلّ خريف، وعند زخّة المطرالأولى، يستسلم لنشوة غريبة، ويقود سيّارته بتمهّل زائد أمام الآخرين الواقفين على الأرصفة، ويعلن سخطه على كلّ سائق يسرع بالقيادة في مستنقعات الشوارع، في الوقت نفسه، يجد أنّه يحمل شيئاً من الامتنان لسائق ما في صباح ما! رغم ذلك، يظلّ يعلن غضبه على مثل تلك الممارسات، ويبلغ به انفعاله إلى درجة الاتّصال بالبث المباشر في الإذاعة لتوجيه انتقاد لأولئك السائقين... فيرد عليه المذيع بتهذيب، ويثني على رأيه، ويشكره على اللفتة الحضاريّة! فالمذيع لا يعرف، ولا أحد يعرف أو سيعرف... وستظل حكايته مع الخريف والمطر سرّاً صغيراً من جملة أسرار كثيرة نخبّئها جميعنا في عمق أرواحنا لتشيع في أيّامنا بعض الدفء بين الحين والآخر، وشيئاً من العذوبة... وإطلالة على بهجة هاربة!
د.لانا مامكغ
__________________

No comments:

Post a Comment